ثالثا: قد يشكل كيف كان يزيد بن معاوية أميرا على أول جيش غزا مدينة قيصر، وقد كان من فسقه ما كان ، وفعل بالمدينة وأهلها ما فعل ؟ وجواب ذلك: أن الوعد بالمغفرة لأول جيش يغزو مدينة قيصر ، لا يلزم منه وقوع المغفرة لكل فرد فرد من جملة هذا الجيش ؛ بل هو وعد عام ، وبيان أن هذا سبب للمغفرة. لكن السبب قد يمنع منه مانع أقوى ، فيتخلف عن مسببه. وليس هذا بموجب الجزم بعقابه ، أو بعذابه عند الله ، بل هو ممن خلط عملا صالحا ، فجاهد وغزا ، وآخر سيئا ، بفسقه ، واستباحته من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ما استباح. قال الله تعالى: ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) التوبة (102). فعلى عقيدة أهل السنة والجماعة لا إشكال في هذا، فإن الكبائر كالقتل لا يكفر بها صاحبها؛ بل يعتبر فاسقا لا كافرا، والمسلم الذي يخلط بين السيئات والحسنات ليس محروما من رحمة الله تعالى ومغفرته بل هو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء غفر له وإن شاء عاقبه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " بل يزيد مع ما أحدث من الأحداث، من قال فيه: إنه كافر مرتد، فقد افترى عليه.
ونحن نشاهد هؤلاء الذين يُعنون عناية كبيرة بأجسامهم ويمشون في اليوم مسافة طويلة عشرة كيلو مترات، أو ثمانية كيلو مترات، من أجل المحافظة على أبدانهم، وهذا لا إشكال فيه، لكن مع ذلك رأينا بعضهم يموت بسبب جلطات متتابعة، وكنا نراه يجوب الحي كل يوم. قيل لابن عباس: الهدهد يقال: إنه يرى الماء تحت التربة، كيف يضع له الطفل الصغير الفخ ويصيده؟، فقال: إذا جاء القدر عمي البصر، فإذا جاء الأجل لا يستطيع أحد رده. رأيت رجلاً دفن ابنه، وكان هذا الابن قد أصيب بحادث سيارة، فبرئ الولد من المرض ثم جاءته أشياء أخرى وتجاوزها، ثم بعد ذلك مات، لماذا؟، قدر الله . فالإنسان يعتني ببدنه عناية كبيرة، ويترقب ماذا قال الطبيب، ولكنه بالمقابل إذا مرض القلب بالمرض الآخر الذي قد يورده النار لا يلتفت إليه، ولا يفكر به، وإذا وجد من ينصحه، ويقول له: اترك كذا، وافعل كذا، ربما يتخذه عدواً. فلو قلت لأحد: يا فلان ما رأيناك صلاة الفجر، حاربَ المسجدَ بقية الفروض كلها، وكأنه يقول: بأي حق يقول لي هذا الكلام؟، لماذا؟ هذا ينصحك، وهذا أعظم من كلام الطبيب في الكلام على المرض العضوي الذي تتلقفه تلقفًا بكامل حواسك، ولكنها الغفلة التي تجعلنا بهذه المثابة.
ومن أكبر الأسباب الداعية للوقوع في مثل هذا هو تتابع الذنب، أول مرة تجده له حرارة في القلب، وأثر شديد، ثم يكون في المرة الثانية أضعف، المرة الرابعة الخامسة، ثم بعد ذلك كما قال النبي ﷺ في حديث حذيفة : تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشربها -يعني تقبلها- نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُرْبادًّا كالكوز، مُجَخِّيًا لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه [3] ، مثل الجَرّة المنكوسة لا يمكن أن تحمل الماء في داخلها، وأبيض كالصفاة لا تضره معصية ما قامت السماوات والأرض، وهذا شيء مشاهد. فلو أن أحدًا من الناس أغراه زملاؤه أن يذهب معهم إلى مكان لا يليق الذهاب إليه، فذهبوا به إلى بلد، ودخلوا به مرقصًا، لا شك أن هذا سيحرج حرجاً شديدًا، بل قد لا يستطيع أن يرفع رأسه من الأرض، ويشعر أن الجميع ينظرون إليه، لكن المرة الثانية، الثالثة، الرابعة، الخامسة، ثم يصير هو الذي يقوم ويتكلم ويضع الوردة في جيب الراقصة -أعزكم الله، ولا يبالي، لكن أول مرة لم يكن كذلك، فهذه الأمور أيها الأحبة تأتي بسبب تتابع الذنوب على القلوب، فيفسد بذلك القلب ويتبلد حسه، ثم بعد ذلك لا يبالي بالناس، ولا يبالي بمعصية الله ولا يتحرك له ساكن بسبب هذه القضية، وهذا معنى قول الله : كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14]، فتكون طبقة على القلب يقال لها: الران، فتغلِّفه، فما يشعر ولا يحس، يصير قلبًا متصلبًا، لا يدخل فيه شيء يؤثر فيه، يسمع المواعظ، يسمع القرآن لا يتأثر، قلبه عليه طبقة، فهذه تحتاج إلى شيء من المعالجة من أجل أن يُصقل القلب، ويرجع إلى حالته الأولى.
نسأل الله أن يلطف بنا، وأن يصلح أعمالنا وقلوبنا وأحوالنا، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه، (8/ 20)، برقم: (6069)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه، (4/ 2291)، برقم: (2990). أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها، (1/ 473)، برقم: (681). أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، وأنه يأرز بين المسجدين، (1/ 128)، برقم: (144).
وقد لُقِّب مسلم بن عقبة هذا بـ"مُسرف" لما ألحقه بأهل المدينة من قتل ونهب. وقد وردت روايات بتفاصيل فظيعة، مما ألحقه مسلم بن عقبة بأهل المدينة من أذى، والله أعلم بحالها ؛ لكن ظلم مسلم بن عقبة لأهل المدينة ثابت عند أهل العلم، على كل حال؛ ولأجل هذا شنعوا على يزيد بن معاوية. روى الخلال في كتاب "السنة" (3 / 520)؛ قال: " أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: ثَنَا مُهَنَّى، قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: هُوَ فَعَلَ بِالْمَدِينَةَ مَا فَعَلَ؟ قُلْتُ: وَمَا فَعَلَ؟ قَالَ: قَتَلَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَعَلَ، قُلْتُ: وَمَا فَعَلَ؟ قَالَ: نَهَبَهَا " انتهى. ثانيا: عن أُمِّ حَرَامٍ: أَنَّهَا سَمِعَت النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ( أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ البَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا. قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا فِيهِمْ؟ قَالَ: أَنْتِ فِيهِمْ. ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: ففي باب ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها أورد المصنف -رحمه الله-: حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه [1] ، متفق عليه. قوله ﷺ: كل أمتي معافى ، حمله بعض أهل العلم على أن المعافاة هنا من ذم الناس وعيبهم وإساءتهم إليه ووقيعتهم في عرضه، فإذا جاهر فإنه تناله ألسنتهم ولربما حصل له شيء من التعدي من جهتهم بأنواعه المختلفة، هكذا فسره بعض أهل العلم. والحديث يحتمل أن يكون المراد معافى من العقوبة، ولكن هذا لا يخلو من إشكال؛ لأن ذلك معناه أن كل من يعمل الذنوب من غير مجاهرة أنه في عفو، وهذا ليس بمراد، والله تعالى أعلم. ولهذا فسره من فسره من أهل العلم فقال: معافى يعني: أن عرضه مصون، محفوظ وله حرمته فلا يصل إليه أحد بأذية، غيبة، أو نحو ذلك، ثم فسر النبي ﷺ المجاهرة بذكر صورة من صورها، وإلا فلها صور كثيرة، ولهذا قال: النبي ﷺ: وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا ، فدل على أن للمجاهرة أنواعا متنوعة.
تاريخ النشر: الخميس 28 ربيع الآخر 1422 هـ - 19-7-2001 م التقييم: السؤال السلام عليكم ، أردت أن أسأل عن الحديث الشريف ( يؤتى يوم القيامة برجال لهم أعمال كجبال تهامة ييضا فيجعلها الله هباء منثورا،لأنهم كانوا إذا اختلوا بمحارم الله انتهكوها) هل المقصود بذلك المبتلى بمعصية ولكنه لا يجاهر فيها بين الناس. وجزاكم الله خيرا. الإجابــة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فالحديث أخرجه ابن ماجه في سننه عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً، فيجعلها الله عز وجل هباء منثوراً". قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جلهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: "أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها" والمراد بهؤلاء: من يبتعد عن المعصية ويتظاهر بالصلاح مراعاة للناس، وأمام أعينهم، وبمجرد أن يخلو بنفسه ويغيب عن أعين الناس سرعان ما ينتهك حرمات الله، فهذا قد جعل الله سبحانه أهون الناظرين إليه، فلم يراقب ربه، ولم يخش خالقه، كما راقب الناس وخشيهم، أما من يجاهد لترك المعاصي، ولكن قد يضعف أحياناً من غير مداومة على مواقعة المحرمات، ولا إصرار عليها، فيرجى ألا يكون داخلاً في ذلك.
ومن دعائه صلى الله عليه وسلم « اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به » (رواه مسلم)، ويقول عليه السلام: « إن صاحب السلطان على باب عنت إلا من عصم الله عز وجل » (السلسلة الصحيحة:3239). وفي وصيته صلى الله عليه وسلم إلى أبي ذر: «إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها و أدى الذي عليه فيها» (رواة مسلم)، وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: « ليوشك رجل أن يتمنى أنه خر من الثريا، ولم يل من أمر الناس شيئًا » (السلسلة الصحيحة:1/636). وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: « أشد الناس عذابًا يوم القيامة: رجل قتله نبي، أو قتل نبيًا، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين » (السلسلة الصحيحة:1/507). يتبع إن شاء الله بـ(وجوب نصح الحاكم وإرشاده وكره معصيته). ماهر إبراهيم جعوان المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام 2 0 44, 199
يقول النبي ﷺ: وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه. هذا الحديث ما علاقته بباب ستر عورات المسلمين؟. العلاقة بينهما من جهتين: الجهة الأولى: أنه إذا طلب ستر عورات الناس، فكذلك أيضاً الإنسان يستر نفسه، إذا كان مطالبًا بستر عورات المسلمين فهو مطالب أن يستر نفسه أيضًا. الجهة الثانية: أنه إن كان يحرم عليه أن يكشف ستر الله عليه، مع أن هذا أمر يتعلق بذاته، لا يتعلق بمظلمة للخلق، ولا بأعراضهم، فكذلك أيضاً يحرم عليه أن يهتك ستر المسلمين، ويتكلم في أعراضهم ويفضحهم ويقول: فلان رأيته يفعل، وفلان رأيته يقارف كذا وكذا، وما أشبه ذلك، هذا لا يجوز. فأقول: ينبغي للإنسان أن يراجع قلبه عند فعل الذنب، وينظر هل يتحرك أو لا يتحرك؟، هل يجد حرجاً وحياء؟، لأن هذه كلها مؤشرات ودلائل تدل على حياة القلب، وعلى مرضه أو موته أحياناً. نحن نعرف أن الإنسان إذا أحس بمرض في قلبه أنه يذهب إلى الأطباء ووجهه يتقلب وينظر ماذا يقولون، وما الذي يظهر بالأشعة والتقرير، هل عنده تصلب في الشرايين؟ هل هو بداية أعراض معينة لمرض في القلب؟، وتجده يطبق ما يقوله له الطبيب مائة بالمائة ويتلقفه بكل تلهف، حتى لو منعه أشهى طعام لديه يتركه ويتحمل ويصبر، كل هذا من أجل مرض عضوي، ولن يموت قبل يومه.
wetten-bonus.com, 2024